شهادة الزُّور وخطرها
رُويَ أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بينما هو جالس بين أصحابه يومًا إذ به يقول لهم: ''ألاَ أُنبِّئُكم بأكبر الكبائر؟'' فقالوا: بلى يا رسول اللّه، قال: ''الإشراك باللّه، وعقوق الوالدين''، وكان مُتّكِئًا فجلس ثمّ قال: ''ألاَ وشهادة الزُّور وقول الزُّور'' ، فما زال يُكرّرها حتّى قلنا: ليتَه سكت.
إنّ شهادة الزّور من أفحش الأقوال، وأقبح الأفعال، وأخطر الظواهر على المجتمعات والأفراد، فكم بها -ظُلْمًا- أكِلَت أموال النّاس، وانتُزِعَت أملاك، وانتهبت حقوق، كم بريء بسببها متهم، كم بها زوّرَت قضايا، وظُلِم ناس.
فعن أنس بن مالك رضي اللّه عنه قال: ذكر رسول اللّه الكبائر فقال: ''الشِّرك باللّه، وعقوق الوالدين وقتل النّفس''، وقال: ''ألاَ أُنَبِّئُكم بأكبر الكبائر؟ قول الزّور''، أو قال ''شهادة الزّور''. قال اللّه عزّ وجلّ: ''واجتَنِبوا قول الزّور''. وقال تعالى في وصف عباد الرّحمان: ''والّذِينَ لا يَشْهَدُون الزُّور''.
وشهادة الزّور هي أن يشهَد الرجل بخلاف ما يَعلم، أو يشهَد بما لا يعلم، فكلّ هذا حرام، فلا يحلّ للإنسان أن يشهد إلاّ بما علم على الوجه الّذي علمه، لا يغيّر فيه شيئًا.
وشهادة الزّور لا تقتصر على المحاكم فحسب، بل إنّ أماكن وجودها منتشرة في الإدارات والأسواق وغيرها من الأماكن. فمن صورها أن تشهد في المحكمة في قضية ما وأنتَ لا تعلم، وقد رأينا أناسًا كثيرين يجلسون أمام المحاكم ويعرضون أنفسهم، أو يقدّمون أنفسهم، على أنّهم شهود مقابل مبلغ مالي، فليعلم هِؤلاء أنّهم قد أتوا بكبيرة من الكبائر ألاَ وهي قول الزّور، وأنّهم أكلوا السُّحت بذلك المال. فأين خوف هؤلاء من اللّه وخشيتهم من عذابه وعقابه، {فاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأوْثان واجْتَنِبُوا قَوْلَ الزّور}.
ومن صور شهادة الزُّور ما يحصل في دار البلدية عند استخراج الوثائق، فقد يشهد شخص لشخص آخر بأنّه لا يعمَل، أو أنّ أباه لا يعمَل ولا يمارس أيّ مِهنة، وغيرها من الشّهادات، وهو لا يعلَم أصلاً هل يعمَل هذا الرّجل أم لا يعمَل، بل أحيانًا لا يعرف الرّجل الّذي يشهد له من هو ومن يكون، يفعل ذلك وهو يظن أنّه نافع لأخيه والواقع أنّه ظالم لنفسه وظالم لأخيه، ظالم لنفسه لأنّه آثِم وأتى بكبيرة من الكبائر وهي شهادة الزّور، وظالم لأخيه لأنّه أعطاهُ ما لا يستحقّه، وأعانه على التّزوير.
كما إنّ من أظهر الشّهادة زورًا قد ارتكب كبيرة من الكبائر، فكذلك مَن كتمها وهو يعلمها لغرض من الأغراض، قال تعالى: {ولا تكتُموا الشّهادة، ومَن يكتمها فإنّه آثِمٌ قلبُه، واللّه بما تعمَلون عليم}، وقال عزّ وجلّ: {ومَن أظْلَمُ ممّن كتَمَ شهادة عندَهُ مِن اللّه وما اللّهُ بغافِلٍ عمّا تعمَلُون}.
قال الإمام الذهبي رحمه اللّه في كتابه ''الكبائر'': شاهد الزُّور قد ارتكب عظائم: الكذب والافتراء، قال تعالى: {إنّ اللّهَ لا يَهْدي مَن هُو مُسْرِف كذَّاب}. وأنّه ظَلَمَ الّذي شهد عليه حتّى أخذ بشهادته ماله وعرضه. وأنّه ظَلَمَ الّذي شهد له بأن ساق إليه المال الحرام، فأخذه بشهادته، وهذا دليل على عظم شهادة الزُّور.
وكما حذَّر المصطفى صلّى اللّه عليه وسلّم من شهادة الزُّور فقد حذَّرَ من قول الزّور، وهو شامل لكلّ قول وفعل خرج فيه صاحبه عن الحقّ إلى الباطل، من غيبة، ونميمة، وكذب وقذف، ولعَنَ وشتم وفحش قول، وبذاءة لسان، والقول على اللّه بغير عِلم، وغير ذلك من أمراض اللِّسان.
فلابدّ لنا أن نُعالِج أنفسنا، وذلك بمعرفة عظمة اللّه وأسمائه وصفاته، إذ إنّ في تعظيم اللّه سبحانه تعظيما لحرماته. وأيضًا الإكثار من قراءة القرآن وذِكْر اللّه {ألاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوب}، {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِين}.. ألاَ فلنتّقِ اللّه عباد اللّه، ولنَحذَر من هذه الشّهادة، ولا نشهد في شيء إلاّ إذا كان واضحًا كالشّمس في منتصف النّهار.
* إمام مسجد أول نوفمبر
فوكة - تيبازة
0 التعليقات:
إرسال تعليق